بقلم : الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
ونعرف أن الشاعر العربي القديم ، كان يبدع شعرا لفائدة العشيرة و القبيلة ، لأن العالم عنده ينتهي عند حدود القبيلة .
ثم أصبح من بعد يكتب ما يكتبه لحساب الحزب ،
ودأب في وقتنا هذا من يكتب حسب طلب دار النشر . وهذه كتابة ليست كتابة .
ذلك الكلام ، من الإستدراكات الأدبية الرصينة للكاتب المسرحي ، شيخ النقاد العرب الدكتور عبدالكريم برشيد ، الذي ظل وباستمرار يدعو للدخول إلى الكتابة من باب لحمه الحي .
إذ يرى أن مهمة الكاتب الحي ، هو أن يحيا الحياة أولا ،
وأن يكون دائم الإنصات لنبض الوجود والموجودات ثانيا ،
وأن يضبط ساعته النفسية على توقيت التاريخ ثالثا .
ويحرص على أن يكون مترجما صادقا ، ينطق بلسان روح الكتابة الجوانية ، قبل رسمها البراني ، ويتكلم بكلمات وعبارات روح اللحظة الحية .
والبحث عن ذلك المعنى ، وفي هذه اللحظة المربكة من تاريخ السودان بليله المدلهم ، لعمري ، لا يمكن لأي ناقد حصيف أن يتجاوز أديبنا الروائي ، الذي تنطوي نصوصه الأدبية على الأسئلة والمسائل التي تكشف كيف وصلنا بمجتمعنا إلى هذا الدرك الهائل من الارتباك والضياع . ألا وهو الأديب عبدالعزيز بركه ساكن بوصفه النموذج الأعلى لمعنى الكاتب المبدع الذي يؤسس مشروعا ثقافيا وطنيا ، هو ضميرها والناطق بإسمها ، ويذكرنا أننا كينونة وأن ثمة معنى للحياة يجب أن نعيشها كما ينبغي وذلك بوضع دواء ناجع لوضعنا المؤسف .
ذلك ابتداء من روايته ” ثلاثية البلاد الكبيرة ” و” العاشق البدوي ” و” مخيلة الخندريس ” و” الجنقو مسامير الأرض ” التي نال بها جائزة الطيب صالح في العام 2012م و” الرجل الخراب ” ومجموعته القصصية ” على هامش الأرصفة ” .. إذ ظلت كل واحدة منها تمثل شارة ضمن مجموع إشاراته التي تشكل الشارة العلامية الكبرى واضعا بها مفهومه للشخصية الثقافية السودانية ، ومحدداتها ، بوصفها الحقيقة وروح تاريخ إنسانها عبر تواتر الأزمان ، في الطريق إلى الذات الكبرى . وأسئلته التي لا يمكن أن نقفز عليها وهي صورتنا في مرآة الفكر والعلم والفن .
ورغم ذلك العدد المنشور من روايات بركه ساكن إلا أن روايته ” مسيح دارفور ” تبقى هي الأهم ، وليس ذلك في السودان فحسب ، بل تعد واحدة من أهم عشر روايات عربية ظهرت منذ مطلع الألفية الثالثة ، أي خلال نحو ربع قرن ، حسب إفادة الأديب الفلسطيني رجب عطا الطيب .
ومسيح دارفور – كما قلت في مقال سابق – هي المعاني التي صعد بها فوق الجراح ، وأرادنا بها أن ندرك المعاني وأن نبصر حبات الدموع التي نزرفها على حواف الرواية ..
إذ ، قال عبدالعزيز بركه ساكن في تعريف الجنجويد :
” قوم عليهم ملابس متسخة مشربة بالعرق والأغبرة يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة لهم شعور كثة تفوح منها رائحة الصحراء والتشرد على أكتافهم بنادق تطلق النار لأتفه الأسباب وليست لديهم حرمة للروح الإنسانية ، لا يفرقون مطلقا مابين الإنسان والمخلوقات الأخرى ” الكلاب الضالة ” وتعرفهم أيضا بلغتهم الغريبة ” الضجر ” وهي عربي النيجر أو الصحراء الغربية ليس لديهم نساء ولا أطفال بنات ، ليس من بينهم مدني ولا متدين ولا مثقف ليس من بينهم معلم او متعلم ، مدير أو حرفي .
ليست لديهم قرية أو مدينة أو حتى دولة .
ليس لديهم منازل يحنون للعودة إليها في نهاية اليوم ” ..
وقال مصدرا ” مسيح دارفور ” :
” أهونُ لجملٍ أن يلِج من ثُقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله ”
صور ” بركه ساكن ” صورة الجنجويد ومعناه في روايته التي صدرت قبل سنوات عديدة ووقتها إشتد الجنجويد على أهالي أقليم دارفور ، إبان نسختهم الأولى المعروفة في أوراق الحكومة رسميا باسم ” حرس الحدود ” .. وهي ملشيات قوامها القبائل العربية في اقليم دارفور ثم تحول الاسم الرسمي الأول ” من حرس الحدود ” إلى نسخته الثانية والجديدة في العام 2013 رسميا إلى قوات الدعم السريع .
غير أن المخيال الشعبي بذهنه الخلاق أطلق عليها منذ بدايات النزاعات الأهلية في بحر سنوات التسعينيات أسم ” الجنجويد ” مصطلح شعبي خاص بالذهن الدارفوري وهو مكون من مقطعين هما : ” جن ” بمعنى جني ، ويقصد بها رجل جني يحمل بندقية من نوع ” جيم 3 ” المنتشر في دارفور بكثرة ، و” جويد ” ومعناها الجواد يعني ” الرجل الجني يركب جوادا ” …
لا يتبنى الجنجويد أي توجه فكري أو سياسي، فهم تنظيم مسلح وظيفي يعمل لصالح القبائل العربية التي تحالفت مع الحكومة السودانية لمواجهة الحركات المسلحة المعارضة ، المكونة من بعض أبناء القبائل غير العربية ، وتم تصنيفهم عنصريا باسم قبائل ” الزرقة ” أي السود وفقا للمصطلح السوداني الدارج ومنهم الفور والمساليت والزغاوة وآخرين .
وقد استخدم الجنجويد جرائم في تلك المجتمعات أكثر بشاعة من الدواعش ، حرقا للقرى والإغتصاب والقتل والتنكيل بالناس . على أساس اللون والدم والعرق .
وقد عاين الأديب الفلسطيني ” رجب عطا الطيب ” رواية مسيح دارفور ، بقدر كبير من العمق ومن نتائج تحليله قال :
” وتعود أهمية مسيح دارفور لأكثر من سبب ، فهي أولا تكشف مضمونيا عن حرب أهلية ضروس ، قاسية ، وقعت في إقليم دارفور ، وترافقت مع الفصل الأخير للحرب بين شمال السودان وجنوبه .
وثانيا ، تقدم الصورة بشكل موضوعي ، من قبل روائي حصيف ، على لسان راو مثله ، بل ربما كان هو .
وثالثا ، تقدم صورة مجتمعية في لحظة اشتباك معقد بين طغمة الحكم المستبدة ، بكل وحشيتها ، والفقراء الذين تعرضوا للتطهير العرقي ، بما أوقع 300 ألف قتيل ، و3 ملايين مشرد ، وفق إحصائيات الأمم المتحدة .
ورابعا ، وفي لحظة استحضار لماض متخلف ، تداخل فيه الجهل والفقر والاستبداد بحيث ظهر على صورة ظاهرة الرق التي انتشرت إبان السلطة الزرقاء قبل قرون ، وخلال عهد الدولة المهدية ، ولم يتم وضع حد لها – على الأقل بالشكل الرسمي – إلا في عهد الاستعمار البريطاني ، والتقسيم العرقي في السودان حساس جدا تجاه هذا الموروث ، حيث تعامل العرب مع الأفارقة كأسياد مع العبيد .
وخامسا الرواية استثنائية من حيث مبناها الروائي ، فالسرد فيها سلس ومتنوع بتنوع الشخصيات ، واللغة منسابة ، رغم ما تضمنته من كلمات سودانية دراجة أو مغرقة في المحلية ، والنص متضمن الكثير من الحكايا المدهشة التي تجعل من السرد مشوقا ، وهناك خط درامي تصاعدي إلى حد ما ، وهناك بالطبع مقولة للنص ، وهناك جرأة فيما يخص ما يعتبره النظام العام خادشا للحياء ، وهذه صفة ملازمة لأعمال ساكن ، منذ مجموعته القصصية ” على هامش الأرصفة ” ، وراوية ” الجنقو مسامير الأرض ” اللتين تعرضتا للمصادرة ، هذا رغم أن ” الجنقو ” فازت بجائزة الطيب صالح الروائية عام 2009م ” .
ذلك هو عبدالعزيز بركه ساكن ، الروائي الذي تتقلب من حوله الأحوال والمواقف ، وهو ثابت في حاله ، لم تأخذه القبيلة ، ولا المناطقية ، ولا الأيديولوجيا ، بل ظل في كل الأحوال محكوما بالحضور الوطني . في كل دورة أو مرحلة ، أيام حكم الإنقاذ ، والثورة ضدها ، وما بعد سقوطها ، حتى مرحلة تمرد ملشيات الدعم السريع ، فالجنجويد في منظوره هم الجنجويد كما عرفهم في مسيح دارفور .
ولهذا يضبط عبدالعزيز بركه ساكن ساعته النفسية على توقيت القوات المسلحة ، لا بوصفها المؤسسة الوطنية الأوحد المناط بها دستوريا الدفاع عن السيادة الوطنية ، بل لأن ” جيشنا ” هو السودان تراثا وثقافة وأدبا وطبعا وأخلاقا وصهوة تاريخ شعوبه ، هو دورة حياة السودان في الوجود الإنساني .
يذهب الآخرون ويعودن ، يحضرون ويغيبون ، وبعضهم ينقلب رأسا على عقب ، إلا ، عبدالعزيز بركه ساكن ، ثابت السكن في قلب الوطن ، كالرمح إستقامة ، رافضا الإنحناء أو الغياب ، ويضع كلماته المبدعة اليوم في صف القوات المسلحة وهي تخوض حرب الكرامة .
كلمات بركه ساكن اليوم إضافة فكرية وجمالية ، ضد منطق الولاء لغير السودان ومجتمعاته المتعددة ، مع جيش ضد الجنجويد ، وبنفس منطقه الأول الذي أسس به ملامح مشروعه الثقافي الوطني ، وهو نفس منطق الواقع ونفس منطق التاريخ ، وبذات منطق الجمال .
الجيش روح السودان وصورته
هم سموق قمة جبل التاكا
وأزهار هضبة جبل مرة ..
معطاءون كفيوض نهر النيل
وثبات أهرامات البركل
هم قلم البلاد الأوحد وقرطاسه وخيله وليله .